عندما تذكر هذه الكلمات فلابد أن يقفز الى الأذهان اسم ( مصطفى عرفان ) !
و عندما يذكر مصطفى عرفان لابد و أن تتردد فى ردهات عقلك بعض الكلمات " سيئة السمعة " التى تصدر عنه دوما ..
فمصطفى عرفان ذو العشرين عاما معروف جدا فى محيطه بكونه سليط اللسان الى أبعد الحدود .. لا يتفوه بجملة الا و يكون نصفها على الأقل سباب بذىء و ألفاظ فاحشة !
هذا هو ما يعرفه الجميع عن مصطفى .. أما ما لم يعرفه أحد فهى حقيقة غريبة فى حياة مصطفى .. هى أن مصطفى عرفان كان يتنفس بنصف أنف ! .. كانت أنفه تعانى تلفا غريبا و هو أن فتحتا التنفس كانتا بالنسبة له فتحة واحدة ! .. منذ مولده و فتحة منهما لا تعمل على الاطلاق .. يستنشق هواءه الذى يبقيه حيا خلال فتحة واحدة فقط .. و لم يفكر يوما فى الذهاب الى طبيب لأن الأمر بالنسبة له لم يكن يمثل مشكلة ما ..
يمكننا القول بأن مصطفى عرفان لا يأخذ من الهواء سوى نصف ما نأخذه نحن !
عرف مصطفى دائما بأرائه الغريبة .. فى أى موضوع و فى أى شىء كانت دائما أرائه صادمة جدا و منفرة .. لم يكن أحد يستطيع تحمله أو يحب محاورته .. دائما هو متحمس لأرائه الغريبة من شعر رأسه و حتى أصابع قدميه .. غير قابل للتنازل عن أى جزء منها .. يدافع عنها بمنتهى القوة و الثورة .. و يهاجم كل من يخالفه بأفحش الأساليب و أقذع الألفاظ ..
ضاق كل من حول مصطفى به ذرعا .. فلم يحدث أبدا أن جلس أحد ليتحدث معه و لم ينته الأمر بشجار عنيف و اهدار كرامة .. و دائما ما تكون كرامة الطرف المضاد لمصطفى بالطبع !
فى أول الأمر كانوا يعتقدون أنه يوما ما ربما تهدأ ثورته قليلا أو يتراجع الى حد ما عن حماسه المبالغ فيه لأفكاره و معتقداته العجيبة .. و لكن الكارثة أنه كان يزداد يوما بعد يوم صلفا و مكابرة و تعصبا لأرائه و أفكاره .. و بالتالى يزداد بذائة و حدة فى الدفاع عنها .. و تزداد كرامة من يعارضه نزفا للدماء !
هجر الناس مصطفى .. ابتعدوا عنه .. لم يعودوا يستطيعون الحياة جواره أو الجدال معه أو مجرد النظر اليه .. تكون داخلهم _ رغما عنهم _ ارتباط شرطى بين مصطفى عرفان و الكثير من المعانى الكريهة .. مثل الغرور و التكبر و الصلف و بذائة اللسان و التعصب المجنون للرأى .. أصبح مصطفى هو المعادل الحى لكلمة ( جنون ) ! .. و ترددت الكلمة كثيرا .. مجنون .. مجنون ..
و لأن مجتمعه لفظه بشكل كامل .. و لأن الجميع أراد ما حدث .. لذلك فقد كان لابد أن يحدث ..
تم حجز مصطفى فى مستشفى للأمراض النفسية و العصبية .. !
و فى صباح ذلك اليوم .. و قبل أن يجد الأطباء جثته الباردة المائل لون جلدها الى الزرقة مستلقيه على الفراش .. وجدوا بجوار مصطفى تلك الكلمات ..
( كانت دائما الحقيقة العارية هى نصف ما يتلقاه الناس من كل ما حولهم .. فقط النصف .. بينما كان النصف الأخر تنويعات على نغمة " كيف أخفى الحقيقة العارية ؟!! " .. فمثلما يكتسب الناس ادراك الحقيقة البكر كما خلقها الله .. يكتسبون أيضا كيفية اخفائها و الالتفاف حولها و التحايل عليها .. يكتسبون كيفية اقناع نفسهم و من حولهم بعكسها أو بوجه شائه لها .. اعتادوا هذا التحايل لأن الحقيقة البكر دائما ما تكون قاسية .. لا تستطيع تحملها الجبال .. و لذلك حرص الانسان دائما على الهروب من ادراكها أو الاعتراف بها لنفسه أو للأخرين .. منذ قديم الأزل و هو يتفنن فى اخفائها و تشويهها كى يتمكن _ كما يظن _ من الحياة فى " بعض " راحة البال .. كى لا تنسف رأسه أفكارا قاتمه عاصفة لا تبقى ولا تذر ..
فى القديم ابتكر الانسان هذا الفن الجديد المدعو بـ " التحايل على الحقيقة " .. ثم أصبح الأن يكتسب هذا الموروث الانسانى من كل ما حوله و من حوله .. أصبح يتنفسه مع الهواء الذى يملأ به رئتيه .. يستنشقه من كل ما يحيط به .. الجميع يصب فى خانة الجميع .. أصبح التحايل على الحقائق البكر هو القاعدة منذ أزمان طويلة .. و أصبح كل جيل يوجد يستنشق فنونا جديدة للتحايل مع كل استنشاقه للهواء الذى يمنحه الحياة ..
و لأننى خلقت بنصف أنف .. فقد كنت منذ مولدى أتنفس فقط نصف ما يتنفسه الناس .. كان كل ما يملأ صدرى و عقلى و جوارحى هو فقط الحقيقة الجرداء العارية من أى شبهة زيف ! .. كانت حقائق الأشياء هى كل المدخلات التى ترد عقلى .. لم أستطع _ رغما عنى _ اكتساب هذا النصف الأخر من الفنون و الطرق المتداولة للالتفاف حول تلك الحقائق التى كانت تردنى .. فقط الحقيقة العارية الصادمة القاتلة هى ما كنت أحيا بها !
و لذلك كنت دائما فى حالة ذهول عميق ضارب الجذور داخل أعماق روحى .. ذهول ناتج عن التناقض الفج اللا انسانى بين ما أدركه من حقائق و ما يحدث حولى من كل من يحيطون بى .. كنت أتحدث و أصرخ و يجن جنونى و أنا أحاول اقناع كل من حولى بغباء ما يفعلون .. أحاول تنبيههم لمحاولاتهم المستمرة خداع أنفسهم .. أحاول أن أبين لهم ما أراه أنا من حقائق صافية نقية .. و لكن بلا جدوى ..
انصرفوا عنى و اعتبرونى مجنونا .. كانت الفجوة تزداد بيننا يوما بعد يوم .. كلما ابتعدوا هم عن الحقيقة كلما اتسعت الفجوة بيننا ..
ارتفع صوت صراخى .. سالت الدماء من أحبالى الصوتية و هى تطالبهم بالعودة .. تمزقت ! .. تمزقت و تمزق كل جزء منى من فرط ما عانته أعصابى من احتراق و ما عاناه عقلى من ارهاق ..
و مع يأسى من انصاتهم أو سماعهم لصرخاتى المستمرة .. و مع انصرافهم المنتظم عنى الى الأبد .. أصبحت أتمنى فى كل وقت أن أصبح مثلهم .. لماذا يا ربى خلقتنى بنصف أنف ؟! .. لماذا لم تمنحنى أنفا كاملة مثل كل من حولى ؟ .. لماذا لم تعطنى امكانية خداع نفسى كما يفعلون هم ؟ .. يا ربى كل ما أطلبه منك هو نصف أنفى الأخر .. مجرد نصف أنف !!
و لكن هيهات .. لم أستعد نصف أنفى الأخر .. و لم أستعد معه القدرة على المعايشة و التعايش .. القدرة على المخادعة و الخداع .. نصف أنفى الذى عشت به طوال عمرى مصمم على تعذيبي الى الأبد ..
حقائق عارية .. أصرخ ..
صادمة .. أعصابى تنهار .. مخيفة .. رأسى يتمزق .. قاتلة .. قلبى يتواثب ..
تبا لك من نصف أنف !! .. تبا لك و لكل ما تحمله لى من متاعب .. لم أعد أستطيع تحملك لساعة أخرى ..
لا تريد أن تمتنع عن تعذيبي ؟ .. حسنا .. سأجعلك أنا تمتنع عما تجلبه لى .. و لنر من منا يستطيع هزيمة الأخر !! )
مصطفى عرفان
17/4/2006