و سهر الليالى .. و كل يوم بحال .. "
كان صوت منير ينطلق ليملأ كل فراغات السيارة .. صارخ معذب ضاغط على كل أعصابى .. ربما يكون هو الحسنة الوحيدة التى فعلها ذلك السائق الذى أستقل الأن سيارته الأجرة .. السائق الذى _ كعادة كل سائقى الأجرة _ يدخن بشراهة و يعاملك طيلة الوقت باعتبارك " جوز امه " .. عصبى نامى الذقن طويل الأظافر .. دائم الشجار و اللعن و السباب .. كنت متوقعا منه أن يدير أغانى من نوعية : " أنا عامل دماغ تماااااام .. مام .. مام .. مام .. مام " و لكنه _ و لحسن الحظ _ خيب ظنى الفنى فيه و قام باطلاق العصب العارى المدعو مجازا بـ " محمد منير " ..
بالذات هذه الأغنية ! .. بالذات على هذا الطريق !
الأن أستطيع أن أرى بوضوح وجه هشام الذى يختلج انفعالا بكلمات الأغنية .. عندما كنا نسمعها سويا كانت كل حركة فى جسده تنطق بمعانيها .. كل نظرة من عينيه تجعلك تقسم أن منير غناها خصيصا من أجله .. هشام الذى أهدته لى الأيام بديلا لتعويضي عن شخصيتي الانطوائية و عزلتى و وحدتى الدائمة .. ربما يكون الوحيد الذى فهمنى فى هذا العالم .. لم يكن حبى لهشام مجرد حب لمجرد صديق .. هو شعور من السخف أن أحاول شحنه فى بعض الكلمات العرجاء القاصرة ..
الأن أذكرك يا هشام .. أذكرك مسافرا على نفس الطريق الذى كان هو طريقك الى عالم أخر غامض .. كان هو نهاية حياتك العزيزة القصيرة ..
" سؤااااال .. بسألك .. ايه أخرة الأحزان ..
دمعتى موالى و الحنين قتال .. "
منذ أن عرفتك يا هشام بملامحك الجادة و نظراتك الثاقبة .. دوما كنت أراك دائم الحركة محموم النشاط .. أولوياتك المطلقة هى العمل و الاجتهاد و تحقيق الذات .. كنت أشعر دوما بأن الحياة اللعينة تسلبك منى .. تستحوذ عليك تماما و ترسم لك قصورا من الأحلام التى كنت دائم الركض نحوها بلا كلل ..
" سؤااااال .. بسألك .. ايه أخرة الأحلام ..
ليلاتى وخدانى فى بحر م الأوهام .. "
كنت أشعر أن ركضك المستمر نحو أهدافك التى لا تنتهى سببه الأساسى خوف مستقر بداخلك يعتصر كيانك .. خوف من المستقبل و من الأيام القادمة .. أنت تركض نحو الحياة خوفا منها و ليس حبا فيها .. كنت أعرف ذلك جيدا و كنت دائما ما أقوله لك ..
_ هشام .. لا تدع خوفك من القادم يفسد عليك استمتاعك بالحاضر .. أنت تضيع أجمل أيام عمرك و زهرة شبابك فى قلق و تعب و لهاث فارغ لا معنى له .. صدقنى يا هشام ستفيق يوما ما عندما تصبح ضخم الكرش شائب الشعر واهن الجسد و ستندم على تضييعك الكثير .. الأحاسيس الانسانية لا تقدر بمال يا هشام .. لا تعطى هذه الدنيا أكبر من حجمها .. انها دنيا حقيرة يا صديقي .. و نهايتنا ستكون واحدة ..
كنت تنظر لى نظرة تحمل الكثير .. نظرة ألمح فيها العتاب كما ألمح فيها الاتهام .. تتهمنى صامتا بأننى أحاول احباطك و هدم عزيمتك و تثبيط همتك .. اتهام لم تنطق به يوما .. و نظرة كانت تخيفنى منك كما كانت تقلقنى عليك ..
يوما بعد يوم كانت الحياة تأخذك منى و من كل من حولك .. كنت تعلو الدرجات فى عملك .. حياتك المادية تزدهر .. و حياتك الأنسانية تضمحل و تنكمش .. لم أكن أدخر فرصة لتذكيرك ..
" انها دنيا حقيرة يا صديقي .. و نهايتنا ستكون واحدة .. "
" سؤاااااال .. بسألك .. ايه أخرة العذاااااب ؟! "
أبدا لم تستمع لى يا هشام .. دوما كنت أرى نفس النظرة المتهمة .. لم تتغير أبدا و لم تعر كلامى اهتماما .. ازددت ركضا مع الأيام .. و ازددت ازدهارا فى عملك و بسطة فى مالك .. حتى ابتعت هذه السيارة التى يحلم بها الكثيرون .. كنت حقا سعيدا بها .. لمحت هذه السعادة فى عينيك .. لم تكن تدرى أنها ستكون وسيلة انهاء رحلتك المرهقة التى لم تسمح لنفسك خلالها أبدا بأن تستريح .. لم تكن تعلم و أنت تسير على نفس هذا الطريق أن هناك الكثير من سائقى سيارات النقل يقودون سياراتهم و هم تحت تأثير المواد المخدرة .. لم تكن تدرى أن سائق هذه السيارة التى كانت أمامك بالذات منهم .. تبا لكل سيارات النقل و تبا لكل سائقيها !
_ تبا لكل سيارات النقل و تبا لكل سائقيها !
كانت هذه من السائق الذى أجلس جواره والذى انتشلتنى صرخته العصبية من خواطرى .. نظرت فى اتجاه يديه فوجدت سيارة نقل ضخمة تسير بسرعة كبيرة أمامنا مباشرة و تفصلنا عنها أمتار قليلة .. دارت عيناى بسرعة على جسم السيارة .. كانت تحمل على ظهرها الكثير من الصناديق المرسوم عليها أجهزة كهربية تحمل علامات تجارية فاخرة .. و قد انتشر عليها _ كعادتهم جميعا _ الكثير من الكلام المتظرف من نوعية : " متبصش يا عبيط دى الحلوة بالتقسيط " و هذا الكلام الفارغ .. و كانت بالطبع تحمل لوحة أرقام كتب عليها " نقل عبد الحميد الأنصارى " لونها أبيـ ...
لحظة !
نقل عبد الحميد الأنصارى ؟! .. اسمى أنا مكتوب على لوحة أرقام سيارة نقل ؟!
بالتأكيد عقلى المنهك يتلاعب بى أو أن هذه النظارة الطبية السخيفة لم تعد تعمل كما يجب .. خلعت النظارة و فركت عيني جيدا و أمعنت النظر فأيقنت أنها كذلك بالفعل .. نقل عبد الحميد الأنصارى ! .. كيف يمكن ذلك ؟! .. هل أطلقت الحكومة أخيرا اسمى على محافظة من المحافظات تقديرا لجهودى العظيمة فى خدمة الوطن و .. جهودى العظيمة ؟ .. وطن ؟ .. اتلهى يا عبد الحميد !
ماذا يحدث اذن ؟! .. فكرت أن أسأل السائق عن المكتوب على اللوحة ثم تراجعت خاصة أنه ليس لطيف المعشر الى هذا الحد .. و لكن الجواب جائنى فجأة حين صرخ السائق :
_ أه يا ابن الكاااالب .. سواق ابن كلب صحيح .. الله يلعن أبو البحيرة ع اللى بييجو م البحيرة !
اذن المكتوب على اللوحة : نقل البحيرة ! .. نقل البحيرة .. السيارة التى قتلت هشام كانت أيضا نقل البحيرة !
حسنا .. فلتكن حتى نقل كوالالامبور فليس هذا وقته .. لماذا أراها أنا نقل عبد الحميد الأنصارى ؟! .. و لماذا لا يراها السائق مثلما أراها ؟! .. و لماذا تعترض هذه السيارة طريقنا بهذه الطريقة الجنونية الغريبة ؟! .. دارت عيناى بجنون على السيارة لعلى أفهم أى شىء أو أجد أى جواب على تساؤلاتى ..
" تاعبنى سؤااااالى .. يا ريت الاقى جواب .. "
و عندما وقعت عيناى على مرأة السيارة و وجدت عيني هشام الثاقبتين الناظرتين نحوى و وجهه الذى ملأته ابتسامة تحمل من القسوة قدر ما تحمله من السخرية .. فهمت كل شىء ..
..............................
" انها دنيا حقيرة يا صديقي .. و نهايتنا ستكون واحدة .. "
..............................
و بعد أن دوى صوت الاصطدام العنيف .. و فى مكان منعزل من عالم أخر غريب لم أعتده بعد .. و بعدما أتم عملية نقلى بنجاح .. قال لى هشام فى لا مبالاة شامتة :
_ لماذا كل هذا الغل و الغضب فى نظرتك الأن ؟ .. انها دنيا حقيرة يا صديقي .. و قد كانت نهايتنا واحدة !
......................
نشر فى مجلة بص و طل الالكترونية ..http://www.boswtol.com/aldiwan/ndonia_229_066.html