السبت، 13 يونيو 2009

داخل نطاق البلوتوث !

" عندك موهبة ؟ .. صوتك حلو ؟ .. بتعرف تمثل ؟ .. الطريق للنجاح خلاص مبقاش صعب .. اتصل دلوقتى على رقمنا 09007117 و اشترك فى برنامجنا < صانع النجوم > علشان تحقق حلمك " ..

هذا الإعلان هو ما أتى بى إلى هنا .. غرفة انتظار أنيقة .. مقاعد وثيرة .. شباب متأنقون طامحون للشهرة ينتظرون كما أنتظر .. فتيات أغلبهن جميلات و بعضهن مائعات .. و لكن المثير أن كلهن واثقات حتى لتشعر أن كل واحدة فيهن تخفى بداخلها أم كلثوم الغناء و فاتن حمامة التمثيل و سعاد حسنى الاستعراض ! .. صحيح أننى لم أحادث إحداهن و لكننى استشفيت هذه الثقة المبالغ فيها بداخلهن من كل حركة و كل إيماءة يفعلنها .. كأن كل واحدة فيهن تعتبر نفسها أنشودة الفن الضائعة و جوهرة مصر المدفونة ! .. شعرت بتصنع واضح فى طريقة كلامهن و نظراتهن .. كل واحدة فيهن تنظر لبقية الجالسين نظرات ازدراء صادقة و كأنها تستمد احترامها لنفسها من ازدراءها للآخرين !

تعارفت على أغلب الشباب الجالسين و تبادلنا الحديث .. كان أغلبهم قاهريين و توقعت أن هذا هو حال الفتيات أيضا .. عدد يسير هم من كانوا مثلى من الأقاليم .. دائما كنت أرى أن القاهرة هى مدينة الفرص .. كنز حقيقي لكل من يملك موهبة أو طموح .. و جحيم حقيقي لكل من يريد فقط أن يترك و شأنه و ينشد العيش فى سلام .. لاحظت أن وتيرة الغرور عند الشباب أخف كثيرا من الفتيات .. و إن كان هناك عدد لا بأس به منهم بدأ بالفعل فى إعداد نفسه لأن يصبح نيكولاس كيدج السينما المصرية أو شارل أزنافور الغناء العربى !

رغم أننى كنت مرتديا بذلة سوداء أنيقة استعرتها من صديقي " فوزى " الذى أصرّ أن : " لازم أوجّب معاك يا معلم فى بداية طريقك للمجد .. بس ابقى افتكرنا بقى و لو حتى بشراب .. ربنا يوفقك يا نجم ! " .. إلا أننى شعرت أن الجميع يفوقوننى أناقة و هنداما .. كنت معتقدا أن بذلة فوزى أنيقة حتى رأيت ملابسهم هنا .. و لكن هذا لم يشعرنى بالقلق .. فمظهرى لا بأس به على كل حال ..

أعتقد أننى لم أحب الغناء فجأة .. لم أستيقظ من نومى ذات صباح لأقرر أننى أحب الغناء و أريد أن أصبح مطربا .. أتصور أن هذا الشىء ولد معى و لم يكن لأحد يدّ فيه .. عندما كنت أدندن أمام صديق لى أو أحد أفراد عائلتى كنت ألمح الإعجاب فى عينيه .. كثير من معارفى كانوا دائما يشجعوننى و يبدون تحمسهم لصوتى و غنائى .. دائما كنت أتابع إعلانات المسابقات الغنائية فى الجرائد و المجلات و على شاشة التلفاز و دائما كنت أتصل دون جدوى .. و لكن أخيرا تحسّن حظى .. للمرة الأولى أوفق فى هذا الأمر و يتم اختيارى .. اختارونى فى هذا البرنامج ليتم اختبارى فى تصفيات المرحلة الأولى .. و ها أنا ذا أجلس فى غرفة الانتظار المجاورة لغرفة لجنة التحكيم ..

كنت قد قرأت فى جريدة ما أسماء شخصيات لجنة التحكيم الخاصة بالغناء .. أحدهم مطرب شاب شهير أراه مسفاّ مائعا .. و الآخر ملحن كبير أحترمه فعلا و أجده مبدعا .. صحيح أنه لم يعد ينتج شيئا جديدا منذ فترة طويلة بسبب غزو الأغنيات السريعة وانتشار الإيقاعات الغربية .. و لكنه يحتفظ برصيد فنى كبير يجبر الجميع على احترامه .. ربما يكون هو الوحيد الذى منحنى ثقة فى اللجنة .. أما الثالث فكان شاعر غنائى لم أعرف له سوى أغنية واحدة انتشرت فجأة فى الفترة الأخيرة تغنيها ساقطة أخرى من اللاتى ابتلينا بهم على شاشات الفضائيات .. أغنية ساذجة تؤديها المغنية بميوعة فائقة .. " إخص عليك يا ابو رمش قادر .. هنت عليك يا ابو قلب فاجر .. أبوس رجليك يا ابو نن ساحر .. تفضل كده لأيامى فاكر " .. للأسف أحفظها جيدا من كثرة طنينها المستمر فى كل مكان بإلحاح مستفز .. و للأسف أيضا مضطر للوقوف أمام الشاعر صاحب رائعة " يا ابو قلب فاجر " ليختبر موهبتى الغنائية .. و لكن ماذا بوسعى أن أفعل ؟ .. ما باليد حيلة .. الحيل _ جميعها _ فقط فى أيديهم !

أجلس منتظرا دورى فى الدخول للاختبار .. حتى الآن دخل عدد غير قليل من الشباب و الفتيات .. بعضهم خرج مبتسما مشرق الوجه و بعضهم خرج بادى الوجوم .. مرت أكثر من ساعتين و أنا جالس لم أتحرك من فوق مقعدى يمينا أو يسارا حتى كاد ردفاى ينزفان دما ! .. كاد الملل يقتلنى حتى رحمتنى الفتاة معدّة البرنامج و نادت اسمى أخيرا لكى أدخل غرفة اللجنة .. كنت منتظرا بفارغ الصبر أن ينادى اسمى .. و عندما نودى تمنيت لو لم ينادَ أبدا ! .. شعرت برهبة قوية تسرى فى كيانى و أحسست باحتراق يكوى معدتى .. قمت من على المقعد بعد طول جلوس و عدّلت ملابسى ثم لمست أطراف شعرى بأصابعى لأتأكد من عدم ضياع جهودى المضنية فى تصفيفه .. قرأت الفاتحة و حاولت طمأنة نفسى فتذكرت أن أمى دعت لى بالتوفيق .. بالتأكيد سيستجيب الله لدعائها .. صحيح أنها قالت لى فى بادىء الأمر أنها تخاف علىّ من الدخول فى هذا الوسط لأنه على حد قولها " مليان ناس بايظين و بُعاد عن ربنا " .. إلا أننى أقنعتها بأنها أحسنت تربيتي و أننى عندما أشتهر سأساعد الفقراء فى بلدنا و أبني لهم مستوصفا ليتلقوا العلاج فيه .. فدعت لى على الفور !

أخيرا دخلت الغرفة .. رغم كل قلقى و رهبتى شعرت بسعادة طفولية أول أن وقعت عيناى على لجنة التحكيم .. تلك السعادة و هذا الانبهار الأبله الذى نحاول إخفاؤه لكى نبدوا أكثر نضجا عندما نرى أشخاصا مشهورين أو شخصيات عامة من الذين يظهرون باستمرار فى التلفاز !

كان الملحن جالسا فى المنتصف بين من يفترض فيهما كونهما مطرب و شاعر .. ابتسم لى محاولا امتصاص بعض من قلقى .. سألنى : " انت منين ؟ " .. قلت له أننى من كفر الشيخ فقال لى مازحا : " شى لله يا دسوقى ! " .. ابتسمت لدعابته و ابتسم لى ثم طلب منى أداء أغنية شهيرة لعبد الحليم .. اندمجت فى الغناء محاولا الوصول لأفضل أداء لدىّ .. كنت أنظر لهم فى نفس الوقت محاولا قراءة تعبيرات وجوههم و تغيرات ملامحهم لأعرف ردود أفعالهم و رأيهم فىّ مبكرا .. كان الملحن يهز رأسه بهدوء مبتسما بينما كان المطرب ينظر نحوى نظرات خالية من أى تعبير .. أما الشاعر فقد كان ساندا رأسه على يديه المتشابكتين أمامه و المستندتين بدورهما على المكتب الذى يجلس خلفه .. شعرت بشىء من التربّص فى نظراته نحوى .. حين انتهيت من الغناء نظرت أولا نحو الملحن .. قال لى أنه معجب بصوتى و أدائى .. و بدأ يحلل أدائى بشكل موسيقي متخصص .. شعرت لحظتها بسعادة و نشوة غامرة .. جاء الدور على المطرب ليبدى رأيه .. قال ما معناه أنه لا بأس بى و بصوتى .. و لكنه اعترض على طريقة أدائى .. يراها رتيبة مملة بعض الشىء .. كأن هذا الرقيع يريدنى أن أقفز على قدم واحدة و أهز مؤخرتى و أقف على رأسى كى يصبح أدائى حيويا ! .. لم يتحمس لى المطرب كثيرا و شعرت أنه شبه رافض لى .. ثم جاء الدور على الشاعر ..

_ انت معاك ايه ؟
_ معايا ايه ازاى يعنى ؟!
_ دارس ايه يعنى شهادتك ايه ؟
_ أنا بكالوريوس تجارة ..
_ و شغال محاسب ؟
_ لأ شغال مندوب مبيعات ..
_ طب انا رأيي انك تركز فى شغلك يمكن فى يوم من الأيام تبقى مندوب مبيعات شاطر !
_ طب حضرتك هو صوتى معجبكش ؟
_ انت جيت البرنامج ليه أصلا ؟ .. يا ابني انت ملكش ف الغنا خالص .. أنا لازم اقوللك كده عشان مبقاش بخدعك و بخدع الناس اللى انت مستنى انهم يسمعوك !

كان أثر كلامه علىّ كأثر السياط ! .. لا أعرف لماذا كلمنى بهذه القسوة .. أنا لم أغتصب أمه ليكلمنى هكذا ! .. كل ما فعلته هو أننى غنّيت .. كل ما حدث هو أن قادنى حظى العاثر لأقف أمام شاعر هابط مثله ليختبرنى و يقيّمنى .. الشاعر صاحب " هنت عليك يا ابو قلب فاجر " يقيّمنى أنا ! .. يمكننى أن أتخيل الموقف إذا عُرض كلام أغنيته هذه على لجنة تحكيم شعرية محترمة .. أعتقد أن رد الفعل الطبيعي لن يخرج عن صفعه على قفاه أو الاتصال بشرطة الآداب !

نظرت بعينين دامعتين إلى الملحن .. قال لى أنه يوافق على مرورى للمرحلة التالية من التصفيات و لكن كلا الجالسين بجواره يرفضان .. و بالتالى فإنه يتمنى لى حظا أوفر فى مسابقات أخرى .. خرجت مهزوما و أنا أدافع بقوة رغبتى فى البكاء .. نظر لى جميع من لا زالوا فى غرفة الانتظار و عرفوا نتيجتى على الفور من ملامح وجهى .. أخذوا يعزّوننى بكلمات مختصرة مجاملة و أنا أهز رأسى و كتفىّ صامتا .. نزلت مسرعا و ركبت سيارة أجرة .. كنت أريد الهروب من القاهرة بأسرع ما يمكننى .. كنت أشعر بمقت و غلّ مريض تجاه القاهرة و كل من و ما فيها .. وصلت لموقف السيارات ثم استقليت سيارة " ميكروباص " متوجهة إلى كفر الشيخ .. انطلق السائق خارجا من القاهرة فشعرت ببعض الارتياح النابع من المرارة !

كنت أراقب الطريق من النافذة الزجاجية و أفكر .. لماذا فعل معى هذا الشخص ما فعل ؟! .. لماذا كان مقتنعا إلى هذا الحد بأننى سىء إلى هذه الدرجة ؟! .. أتراه لم يخطىء ؟! .. أليس من الممكن أن يكون هو المحق ؟! .. من الجائز أن يكون أصدقائى جاملونى عندما أقنعونى بعذوبة صوتى و إجادتى الغناء .. من الجائز أننى خدعت نفسى و عشت بداخل الأكذوبة التى صنعتها حتى صدقتها لأننى أحببت تصديقها .. ربما يكون آدائى بالفعل رتيبا و مملا .. و لكن الملحن الذى أحبه و أثق به أعجب بصوتى و موهبتى .. أتراه هو الآخر كان يجاملنى ؟ .. لا أعتقد ذلك .. لقد حلل آدائى تحليلا موسيقيا متخصصا دون مجاملات .. و لكن الملحن بعيد عن الفن منذ فترة طويلة .. ربما يكون لا يزال سجين زمن بائد و عصر زائل ! .. هل موهبتى و آدائى ينتميان لهذا الزمن ؟! .. ربما أملك موهبة منتهية الصلاحية .. و من الجائز أننى لا أملك أى موهبة على الإطلاق كما قال لى الشاعر .. الشاعر .. شاعر " يا ابو قلب فاجر " .. أهى أغنية هابطة فعلا ؟! .. أم أنه ذكى بحيث يدرك كيف يساير عصره و زمنه و ما يحبه الناس ؟ .. ربما تكون هذه الأغنية هى ما تليق فعلا بهذا الزمن .. أم أن هذا الزمن هو الذى يليق بتلك الأغنية ؟! .. أكنت أحمقا موهوما كل هذه السنوات ؟! .. لا أحب أن أصدق ذلك .. و لكنه الآن أصبح احتمالا واردا .. هل الــ ..

" إخص عليك يا ابو رمش قادر .. هنت عليك يا ابو قلب فاجر .. "

انتزعتنى الأغنية من أفكارى .. نظرت ناحية الصوت فوجدت مصدره هاتف محمول يحمله شاب يجلس أمامى فى السيارة .. أخرجت هاتفى المحمول .. قمت بتشغيل الـ " بلوتوث " .. ضغطت على كتف الشاب فالتفت نحوى ..

" لو سمحت ممكن تبعتلى الأغنية دى ؟! "

..................................................

نشرت فى مجلة بص و طل الالكترونية .. http://www.boswtol.com/aldiwan/ndonia_260_099.html