السبت، 5 سبتمبر 2009

أعلى و لو بملليمتر !

" ايه يا عم انت مش ناوى تكتب قصة جديدة ولا ايه ؟ " .. " ايه يا ابني انت خلاص نويت تبطل كتابة ؟ " .. " يا عم اكتب بقى انت بقالك كتير أوى مكتبتش .. دى حتى الحاجة الوحيدة المحترمة اللى كنت بتعملها ف حياتك " ..

إلحاح .. إلحاح .. أزيز .. صداع .. جميعهم أغبياء .. جميعهم حمقى .. جميعهم لا يفهمون أى شىء ولا يشعرون بجزء من مائة مما يتصادم و يتصدع داخل روحه .. أو هكذا أصبح يعتقد !

الكثير من التعليقات حول تركه الكتابة .. المزيد من الثرثرة عن شعوره بالإحباط و اللا جدوى .. العديد من الأسئلة التى يوجهها له كل من يهمه و لا يهمه الأمر .. قلة فقط ممن يسألون هم من يحبون قصصه و يتابعونها فعلا .. و الغالبية الباقية يشاركون فى التساؤلات على سبيل التسلية المجانية على ما يرونها " خيبته " .. أو بث المزيد من الإحباط فى روحه .. أو التظاهر بالكثير من التأثر و المواساة و المساندة المعنوية تطبيقا لنصيحة فودافون الشهيرة " عيش أحلى ما فى اللحظة " !

دائما ما يرد نفس الردود التى ملّ لسانه من نطقها و لم تملّ آذانهم من سماعها : " مفيش فكرة مترتبة فى دماغى دلوقتى " .. " فى أفكار كتير بس ملخبطة " .. " أصل فى ظروف واخدة وقتى كله " .. هراء .. مجرد هراء أوشك هو الآخر على تصديقه من كثرة ترديده .. و لكنه لا زال يدرك أن سبب تركه الكتابة بعيد تماما عن كل ما يردده و بعيد أيضا عن عقول و استيعاب كل من حوله .. أو هكذا أصبح يظن !

يعرف أنه يحب الكتابة .. يحبها فعلا لأنها تحبس كل ما يدور بعقله من أفكار جامحة فى بضع كلمات و حروف يمكن السيطرة عليها .. يحبها لأنه يشعر بالفخر بنفسه سرا عندما يُتمّ كتابة قصة جديدة و يكون رأيه الشخصى فيها إيجابيا .. يحبها لأن لحظات سعادته عندما يشعر بإعجاب صادق داخل عيني أحد من يقرأون له لم تخذله أبدا .. صحيح أنها نادرا ما تتجاوز لتتعدى كونها لحظات و لكن من قال أنه يطلب منها ذلك ؟ .. هو فقط يريدها عميقة متغلغلة مُسكرة لنواة روحه .. و هى دائما كانت كذلك !

صحيح أنه ينشر قصصه فى مدونة إلكترونية صغيرة هى أقصى وعاء لاحتواء أفكاره ككاتب شاب لا يملك سوى موهبته .. و لكنه على الأقل كان يجد وسيلة للتواصل .. صحيح أن عدد من يقرأون له فعليا لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين .. و لكنه على الأقل كان يملك قراء .. صحيح أن اليوم الذى كان يكتب فيه قصة جديدة كان يُعدّ ظاهرة كونية لا تقل ندرة عن الكسوف الكلى للشمس .. و لكنه على الأقل كان يكتب قصصا .. الآن لم يعد يعبأ بوسيلة التواصل أو يهتم بامتلاك قراء لأنه لم يعد يكتب بالأساس !

على الرغم من أنه كان يستمتع أيضا بكتابة الشعر و المقال .. إلا أن متعة كتابته للقصة القصيرة لم يكن يفوقها شىء .. القصة عالم خاص يصنعه بنفسه .. يرسم خطوطه و يحدد ألوانه و يحرك أدواته كما يحب .. و لكنه يترك _ بقدر استطاعته _ كامل الحرية لشخصياته لتتصرف كما تحب .. هو ليس إلها ليتحكم فى مصائرهم حتى لو كانت حبرا على ورق .. هو فقط يحاول دائما أن يشعر بما يشعرون به و يجعلهم يتصرفون من خلال شعوره بهم .. الأمر يحمل لمحة رقيقة من الديكتاتورية بالفعل و لكنه لم يجد أبدا حلا آخر !

كان يملك نظريته الخاصة فيما يتعلق بشخصياته .. كان مقتنعا أن الشخصيات الأقرب للمثالية دائما ما يستأثرون بأدوار البطولة و ينعمون بتسليط الأضواء عليهم طيلة الوقت فى أرض الواقع .. ليس بالضرورة أن تكون سماتهم الشخصية بالفعل مثالية .. المهم أن تبدو كذلك لكل من حولهم .. الجميع دائما ما ينبهرون بذلك الشاب الوسيم الأنيق اللبق الناجح فى عمله .. أو الآخر الرياضى مفتول العضلات الذى لم يهزم فى أى معركة خاضها .. أو ذلك الرجل الذى يبدو فنان عبقرى شديد الموهبة .. أو تلك الفتاة ذات الخصر الرشيق و النهد النافر و الوجه المضىء و أضف إلى ذلك أدبها الجمّ و تدينها الشديد .. هؤلاء و من هم على شاكلتهم هم من يأخذون الأدوار الرئيسية و على الجميع من حولهم أن ينبهر و يصفق و يسجد و يركع !

لذلك قرر أن يعطى أدوار البطولة فى قصصه لكل من تم حرمانه منها فى عالم الواقع .. قرر أن يحترم الفشل و أن يعتبره تجربة إنسانية غاية فى العمق .. قرر أن يقدر كل المشاعر المريضة و الرغبات الشاذة باعتبارها مشاعر بشرية مرهفة .. قرر أن يحب أبطاله مهما ظهرت عيوبهم و بلغت تشوهاتهم .. أحب تلك الفتاة النحيلة بارزة العظام قبيحة الوجه سليطة اللسان نتنة الرائحة و رأى فيها ما يصلح لأن تصبح فتاة أحلام قراء قصصه .. احترم ذلك الشاب الوغد النذل الذى يجد متعته فى إذلال الفتيات و أجبر قارءه على احترامه .. أعطى الأعذار لذلك الشخص ضامر الذكورة الذى يدور كالكلب الأجرب فى الشوارع باحثا عن عضو ذكرى كامل التكوين يقبل إشباع شهوته الشاذة المفرطة فى الدناءة .. و الغريب أن القارىء تقبل الأعذار بصدر رحب !

" الشخصيات السوية لا تستحق أن تأخذ دورا مهما فى الكتابة الأدبية " .. هكذا كانت قناعته .. لذلك كان يعتبر قلمه فقط مجرد وسيلة لتلك الشخصيات لتأخذ حقها فى الظهور .. هو لا يملك أى فضل عليهم .. كما أنه مقتنع أيضا أنه لا يصلح أن يصبح بطلا مثلهم فى أى قصة من قصصه أو قصص أى كاتب آخر .. صحيح أنه ليس شخصا مثاليا فى عالم الواقع و لكنه فى الغالب شخص سوى .. على الأقل سوى للدرجة التى تسمح له بمراقبة من حوله و التمييز بين من هو سوى مثله و من هو غير ذلك .. طبعا كى يركز فقط مع من هم غير ذلك !

كان يكتب عن كل من هم غير أسوياء من وجهة نظره لأنه كان يعتبر نفسه ينتمى للمعسكر الآخر .. كان يرى أن الكاتب يحتاج أن يكون أعلى نفسيا و فكريا من كل شخصياته لكى يستطيع احتواءهم و التعبير عنهم جيدا .. لابد أن ينظر من أعلى لتكون نظرته أكثر شمولية و أكثر صدقا .. ليس ضروريا أن يملك شخصية أسطورية محلقة فى السماء كى ينظر من أعلى .. المهم أن يكون أعلى فقط .. أعلى و لو بملليمتر !

كل شىء تغير بسرعة .. التغيرات خارجه كانت صادمة .. و التغيرات داخله كانت مريعة .. الكثيرون ممن حوله يعرفون الظروف التى مرّ بها .. الكثيرون يعلمون ما فقده من آمال و ما اكتسبه من آلام .. الكثيرون يقدرون حقه الطبيعي فى أن يتألم و يحزن و يتمزق .. و لكن لا أحد يعرف ما يحدث بداخله .. ليته كان مجرد ألم و حزن و تمزق !

ترك الكتابة و حاول كل من حوله أن يجدوا مببرات ترضى احتياجهم البشرى السافر للمعرفة .. جميعهم مالوا للحلول الأسهل .. لم يدرك أحدهم أنه لم يعد يريد أن يكتب .. أو لم يعد أصلا يستطيع أن يكتب .. أو بالأحرى لم يعد يجرؤ على الكتابة !

كان صريحا مع نفسه لأبعد الحدود .. وقف أمام المرآة و نظر لنفسه طويلا ثم اعترف ببساطة دامية أنه لم يعد شخصا سويا ! .. اعترف أن كل ما مر به جعله مجرد مريضا نفسيا آخر .. مريض نفسى يحمل كم هائل من الهواجس و المخاوف تجاه كل شىء .. أصبحت ردود أفعاله فى الكثير من المواقف غير منطقية و غير مبررة .. و الأسوأ أن ردود أفعاله صارت تخيفه هو شخصيا ! .. فقد ثقته فى حواسه بشكل كامل .. إنسان لا يثق فى حواسه هو ببساطة إنسان لا يعيش فى عالمنا ..

هكذا أصبح هو .. و هكذا أدرك كيف أصبح !

عندما تذكّر كل شخصيات قصصه السابقة أصابه الذهول .. شعر فجأة أن شخصا آخر هو من كتب ذلك .. شخص كان يعرف جيدا أن أبطال قصصه نماذج شاذة غير سوية و لكنه يتحايل على ذلك بشتى الطرق ليُشعر قارءه تجاههم ببعض المشاعر الإيجابية .. الآن هو يري أنهم بالفعل نماذج سوية مقارنةً به ! .. ردود أفعالهم جميعا قابلة للتوقع بالنسبة لردود أفعاله .. حواسهم لم تتلاعب بهم أبدا كما تتلاعب به حواسه .. فى السابق كان يكتب عنهم بثقة لأنه كان قادرا على احتوائهم عندما كان يعتبر نفسه أعلى نفسيا منهم .. الآن هو أدنى من الجميع .. شخص مثله لا يستطيع أصلا أن يميز بين المختلّ و السوى .. و الغريب أنه رغم كل التشوش الذى أصابه أدرك كل ذلك و تعامل معه كحقائق مسلم بها ..

هو لم يعد يصلح للكتابة .. فهو أكثر شخص غير سوى قابله فى حياته !

" يا عم حاول تكتب " .. " يا ابني اكتب حاجه جديدة " .. " اكتب " .. " اكتب " .. " اكتب " ..

إلحاح .. إلحاح .. أزيز .. صداع .. و لكنه أحيانا يكون مثمرا !

قرر أن يكتب قصة أخيرة عن الشخص الوحيد الذى يستطيع الآن الكتابة عنه .. سوف يكتب قصة عن الكاتب الشاب الذى امتاز أبطال قصصه بكونهم غير أسوياء و ما حدث له من تغيّر جعلهم جميعا يصبحون أسوياء بالمقارنة به مما جعله يقرر أن يترك الكتابة للأبد ! .. بما أنه فى كل الأحوال لم يعد يستطيع الكتابة فليكتب إذن القصة الأخيرة و الوحيدة التى يمكنه كتابتها .. جلس بالفعل إلى مكتبه و أمسك بالقلم و كتب القصة .. أحس بالتوتر يعلو بداخله مع كل سطر يكتبه .. شعر بتشوش شديد فى الرؤية أدرك سببه عندما انهمرت دموعه بعدما ألقى القلم فور أن أكمل القصة .. دفن وجهه بين كفيه و ارتفع صوت بكائه فى انهيار تام ..

لم يكن يعرف قبل ذلك أنه بهذه الوضاعة ! .. لم يكن يعرف أنه من الممكن أن تهون عليه نفسه إلى هذه الدرجة .. ارتضى أن يحول نفسه بيده إلى مجرد شخصية أخرى من شخصيات قصصه .. ارتضى أن تصبح كل آلامه و جروحه و شروخه مجرد سطور يقدمها لقارىء يبحث عن أى شىء لتزجية وقته أو آخر يمصمص شفاهه بعد قراءة القصة ثم يعتدل على أريكته المريحة و يعبث فى أصابع قدميه قائلا : " يا سلاااااام .. حاجة مؤثرة جدا " ! .. أدرك الآن فقط أن غروره هو ما كان يصور له أن من حقه أن يكتب عن كل من كتب عنهم .. كان واهما حين اعتبر أنه يستطيع التعبير عنهم لأنه أعلى منهم .. هو على يقين الآن أن أحدا منهم لا يمكن أن يحتقر نفسه إلى هذا الحد كما فعل هو ! .. لا يمكن لأى منهم أن يجعل من آلامه و تشوهاته متعة رخيصة لكل من حوله .. بالتأكيد لا يمكن مهما كانوا غير أسوياء أن يفعلوا ذلك .. كان يتصور أنه عبّر عنهم جيدا فى قصصه لأنه ينتمى إلى المعسكر الآخر .. معسكر الأسوياء .. كان يتصور أنه أعلى منهم .. و الحقيقة أنه لم يكن أبدا أعلى .. لم يكن أعلى و لو بملليمتر !