من لا يعرف حسن العامرى فهو _ بلا شك _ لم يقرأ جريدة أو كتابا طيلة حياته !
حسن العامرى المنتشر كمبيد حشرى فى كل جريدة و كل مجلة .. يتلقى كل يوم ألف اتصال من ألف رقم غريب على هاتفه المحمول يرجوه أن يكتب شيئا لصحيفة كذا الجديدة أو مجلة كذا الالكترونية .. لم يكن يتوقع أبدا كل هذا التهافت بعد أعوام طويلة قضاها كاتبا عاديا لا يلفت الانتباه ولا يثير الانبهار .. لم يكن يدر أن " الإناء المثقوب " روايته الأولى ستحقق له كل هذه الشهرة و الانتشار .. كانت رواية جيدة و لكنها ليست مبهرة و ليست طفرة فى عالم الأدب .. هو كان يعرف ذلك .. و لكن أرقام المبيعات كان لها رأي آخر .. لاقت الرواية صدى كبيرا فى أوساط القراء و وجدت إشادات متحفظة من أغلب النقاد .. تهافتت بعدها كبرى دور النشر لتظفر بنشر رواياته التالية .. و أصبح هو الوجه المكرر دائما فى البرامج التليفزيونية و الندوات الثقافية .. و بالطبع أصبح يشترى اللحم لأولاده دون أن يشعر بوخز الضمير !
الآن يحفظ الكثير من الشباب جمله و عناوين قصصه .. يرددون آرائه كمبادىء حياتية و قوانين مسلم بها .. ينتظرون بلهفة مقالاته اليومية و قصصه القصيرة .. يفرغون مقالاته من الصحف ليحتفظوا بالقصاصات فى أدراجهم الخاصة .. و يغضبون عندما يشترون المجلة ليجدوا أنها لم تنشر قصته و يستعوضون الله فى ثمنها !
حسن العامرى الذى يعتبر يوم الجمعة أكثر أيام الأسبوع ايحاءا .. يعلن كل جمعة حالة الطوارىء القصوى فى منزله .. يختلى فى مكتبه بقلمه و أوراقه و سجائره .. يدخن بشراهة و يحتسى القهوة بغل .. يهز قدميه بعصبية و يعض على قلمه بغضب .. يصرخ و يعوى و يمزق الكثير من الأوراق .. ثم يخرج فى نهاية اليوم و قد قطع شوطا فى روايته الجديدة و أنجز عددا لا بأس به من القصص القصيرة التى سيسيل لها لعاب رؤساء تحرير كبرى الصحف بالتأكيد ..
فى صباح تلك الجمعة استيقظ عازما على كتابة قصة طلبتها منه جريدة " خنقتونا " واسعة الشهرة .. دخل مكتبه و أعد أوراقه .. أشعل سيجارة و أمسك بالقلم و بدأ يفكر ..
ماذا سأكتب ؟ .. كيف ستكون القصة ؟ .. يجب أن تحمل أفكارا جديدة و مبتكرة حتى لا يمل منى القراء .. يجب أن أستعين بعناصر مثيرة و جذابة .. أعتقد أن الجنس مناسب جدا .. الجنس يحمل جاذبية كبيرة خاصة فى أوساط الشباب .. و لكن لالا .. يوسف إدريس و علاء الأسوانى فعلاها كثيرا .. يجب أن تحمل قصتى طابعا خاصا ..
هى السياسة إذن ! .. سأكتب قصة تحمل الكثير من الاسقاطات السياسية العبقرية .. بالتأكيد ستنال إعجاب القراء .. فى هذه الأيام أصبح كل من يهاجم النظام بطلا و يجب أن أستغل ذلك جيدا .. سأعبر عن السلطة بشكل رمزى و أسبها و ألعنها طيلة الوقت .. جميل .. جميل .. و لكنى أشعر أن الكثير من الكتاب سبقونى لذلك .. ابراهيم عيسي و عبد الحليم قنديل لم يتركا مجالا للرمزية !
ماذا عن الفانتازيا ؟! .. أعتقد أنها تناسبنى تماما .. ستدور القصة فى عوالم أخرى بتفاصيل جديدة و شخصيات أسطورية .. بالتأكيد ستبهر القراء كثيرا .. فانتازيا ؟! .. تبا ! .. أحمد خالد توفيق يصدر سلسلة كاملة تحت هذا العنوان .. بالتأكيد لم يترك لى أفكارا لأكتبها .. أين ذهبت روح الزمالة ؟! .. يجب أن يراعى كل كاتب زملائه أكثر من ذلك !
مرت ساعتان و لم يخط حرفا واحدا على الورقة .. بدأ يفقد أعصابه تدريجيا .. هب من مقعده و أخذ يتحرك فى الغرفة حركات عصبية .. يعتصر ذهنه .. يضرب المكتب بكلتا يديه .. ثم ينعى حظه الذى جعله يحيا فى سنة 2009 .. لماذا لم أولد مثلا سنة 3000 قبل الميلاد ؟! .. وقتها كانت الأفكار كثيرة كرجال الأعمال الفاسدين فى الحزب الوطنى و جريئة كالفتيات العاهرات .. تأتى بنفسها لتجلس بين يديك و تداعبك و تراودك عن نفسك .. لم يكن خلق بعد كل هؤلاء الكتاب و الأدباء ليسرقوا منك أفكارك قبل أن تولد .. الآن أصبحت الأفكار قليلة كنقود موظف و خجولة كعذراء ليلة زفافها .. لو بعث شكسبير و ادجار آلان بو و المتنبى من قبورهم الآن لما استطاعوا أن يكتبوا حرفا !
جلس مرة أخرى و بدأ يتذكر .. يتذكر كل كتاباته السابقة .. مقالات و قصص و روايات .. اندهش كثيرا عندما كون انطباع عام عن كل كتاباته فى تلك اللحظة .. اندهش للانطباع نفسه و اندهش لكونه لم يفكر فيه سوى الآن ! .. لقد اكتشف الآن فقط أنه لم يكن سوى مجرد معلق على الأحداث .. تماما كالمعلق الكروى .. يصف بالضبط ما يحدث من تطورات فى وطنه و مجتمعه طيلة السنوات السابقة تماما كما يصف ميمي الشربيني هدف أبو تريكة فى مرمى الزمالك .. دون أن يتسبب هو بأى شكل يذكر فى صنع أى حدث .. هو حسن العامرى .. الكاتب الكبير الذى يعتبره الشباب قدوة و إماما .. لم يفعل فى حياته سوى سماع الأخبار و التعليق عليها .. الأحداث التى تتطور كل يوم من سىء لأسوأ .. الوطن الذى عمه الخراب منذ زمن .. اكتفى حسن العامرى و أمثاله بمشاهدته من بعيد و وصف ما يحدث له بأسلوب أدبى منمق يخلب ألباب القراء !
استولت الفكرة على عقله .. أكنت هذا الرجل حقا كل هذه السنوات ؟! .. بفرض أننى كنت كذلك بالفعل .. إذن ماذا كنت أستطيع عمله غير ذلك ؟! .. كيف أصنع أحداثا فى مجتمع يسيطر عليه لصوص احترفوا السرقة و مص الدماء ؟! .. كيف أكون جزءا من تطور فى المجتمع و فوق عاتقى و عاتقنا جميعا سلطة لا تريد لهذا التطور أن يحدث ؟! .. حتى دورى كمجرد معلق لم يكن مرغوبا به لدى السلطة .. فماذا لو حاولت أن أصبح صانعا للحدث ؟! .. أعتقد أنه لم يكن بيدي أى شىء سوى ذلك ..
و لكن هل " ذلك " شىء يدعو للفخر فعلا ؟! .. سيذكر التاريخ أن شخصا بحجمى و شهرتى و تأثيري ولد و مات و الفساد لا يزال يجتاح البلاد .. ولد و مات و لا زالت مصر تشارك فى ذبح فلسطين يدا بيد مع اسرائيل .. ولد و مات ولا زال الشرفاء يسجنون و يعذبون .. ولد و مات و اللصوص يتقلدون أرقى المناصب .. ولد و مات و لا زال البسطاء يقتلون كقرابين لحكومة عابثة و رئيس ظالم .. ولد ليصف هدف أبو تريكة فى مرمى الزمالك .. ثم مات !
فكر فى أن الموقف الشريف الوحيد الذى يستطيع فعله ما دام لا يستطيع صنع أى حدث .. هو الصمت التام المطلق الأبدى ! .. فكر فى أنه أحقر من أن يعلق على أى حدث فى وطنه الموتور .. أحقر من أن يبحث عن جمل جذابة و تعابير أدبية متأنقة ليصف بها ما يحدث حوله .. أحقر من أن تنشر له قصص و روايات ليقرأها شباب تم تحطيم مستقبله قبل أن يولد .. أحقر من أن يساهم فى صنع وهم لشباب يفتقد معنى الهدف و الطموح و المستقبل .. حتى هؤلاء الجديرون بصنع الأوهام يملكون مميزات لا يملكها هو !
قذف بالقلم فى عصبية .. دفع الباب بثورة و خرج من مكتبه و قد اتخذ قرارا بعدم الكتابة بعد الآن .. اصطدم به ابنه الصغير أثناء ركضه فصفعه بقوة و غضب شديدين .. بكى الطفل كثيرا لشدة الصفعة و لعدم منطقيتها .. ركض العامرى بسرعة و دخل مكتبه ثانية و أغلق الباب .. بكى كما لم يبك طفله الصغير .. ثم أمسك بالقلم و كتب بخط مشوش غير مهندم : " سأكتب .. سأكتب فقط لأننى أحقر من أن أتخذ قرارا بعدم الكتابة ! "
............................................
نشر فى مجلة بص و طل الالكترونية ..http://www.boswtol.com/aldiwan/ndonia_242_077.html
الاثنين، 23 فبراير 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك 18 تعليقًا:
ازبهلات بتاع ساعه كده عشان افهم المغزى مش معنى كده انها مش مفهومه لا القصد انها غريبه .
بختصار المميزات : الاسلوب الساخر وترابط الاحداث .
العيوب : التطويل فى مدح الكاتب وجعل شخصيه الكاتب ضعيفه جدا بالنسبه لكاتب بهذا القدر من الشهره .
ترتيب الاحداث كان جميل اوى يأسامه النهايه هى الكانت غريبه شويه بس كمجمل حلوه والله
ماجد مصطفى
اية يا باشمهاندس ده والله ما انا هعلق في مدونتك دي الا ما تبعت لي الصور الاول
اسامه كدة انا هزعل انا وغادة يا باشا
هههههههههههههه حلوة جريدة خنقتونا
اسم مختلف برده
قصة جميلة ومختلفة
اليومين دول بقى فى كتير حسن العامرى
بس الفكر المختلف والجميل هو اللى هيفضل
ربنا معاك ويوفقك
سلام عليكم
تصوير جيد لحاله أى واحد محترم. بيفكر فى حجمه بالنسبه لعمله
... حسن العامرى قرر أن بستمر وهذا ليس جديد. الكل يستمر
لكن الجديد انه سيستمر بشكل مختلف
وأعتقد أنه سيأتى بالجدبد
الأسلوب جامد جداً جداً
الفكرة مبتذله إلى حد ما
وعلى حسب كلامك فكل الموجود الآن من فئة حسن العامرى ابراهيم عيسى و عبدالحليم قنديل وبعض المدونين مثلك
والمفروض انهم يبطلواكتابة ولكن شكلهم أحقر من أنهم يتخذوا قرار ذى ده
أخوك اللى انت مش معبرة" مصطفى ناصف"
مصطفى ناصف
mostafa.nassef@yahoo.com
أرجو التواصل يا معلم
قصة مكتمله رائعه أدبيا ماشاء الله عليك يا هندسه ..
بتحكي فيها عن نفسك أحاسيسك الفترة الأخيرة تجاه الكتابه و تجاه المجتمع .. و انت عارف رأيي .. كل يعمل على شاكلته .. يعني حضرتك يا عم حسن كاتب مدام عندك هدف و أولويات و بتعمل اللي عليك يبقى انت كده بتخلق الأحداث حتى لو انت متخصص فقط في سرد الروايات .. فيه هدف + عمل بناء على أولويات متوجهه لتحقيق الهدف بأحسن
طريقة .. يبقى خلاص دلوقتي مش لازم أبدا ضميرك يوجعك انت كده فعلا عضو مؤثر و بناء و فعال لو عندنا 10% من الناس زيك هتلاقي الأحداث اتغيرت تماما .
رائع أسلوبك و سردك يا أسامة .. لكن اللي بيعمل اللي عليه فعلا ضميره مابيوجعوش .
محمـود حجـاب
ايه يا عم اسامه الموضوعات الجامده دى طبعا انت عارف انى مبعلقشى على اى موضوع لانى مبقراش كتير عشان كده الموضوع اللى اعلق عليه اكيد جامد جدا .......... بس بصراحه انت طولت اوى فى مدح الكاتب ده ........
محمد على (ابن خالتك)
هااااااااااااى على فكره الموضوع ده جميل اوى ولمواضيع التانيه كمان اصل انا اول مره ادخل المدونه هنا ويا ريت تبقى تبعتلى كل اما تكتب موضوع جديد mezo_meno_2009@yahoo.com
انا اسمى محمد فهيم وصاحب محمد ابن خالتك وهو اللى قالى على المدونه
والله يا اس انا هقولك على اللى حسيته من القصه جست الاحساس بالكبت اللى ملك الشباب من عدم تحقيق اهدفهم مع انى معرفش مين النجم ده اصلا حسن العامرى ومش مشهور اوى زى ماانت فاكر انت حسستنى انه عمل القانون الخامس فى الميكانيكا ولا حاجه اهو بيكلم زى الاف اللى بيكلموا فى اى حاجه اخوك az زيكا
فيه حاجه ياريت يا اس تحاول تقلل منها وانت بتكتب كثرة التشبيه لشعورك بان ده هيعطى جمال فى التعبير اكتر فى اساليب تانيه كتير لوصول المعنى منها الحقايق نفسها او تحاول تجذب القارئ بالاحاسيس اكتر من التشبيه وده ممكن يديك مجال اكبر فى الكتابه احسن متوصل التعبير مباشر للقارئ بيكون اقل جمال اخوك az زيكا
ازيك يا اسامة يارب تكون بخير جاية اطمن عليك يارب تكون فى احسن حال يا مبدع
احقر من أن يتخذ قرار بعدم الكتابة
مرمطت الراجل
عندك حق كلنا معلقين
حتى أنا وانت
كلنا عملنا ايه يعنى
سلبييين كلنا
عادى
تحياتى
حباية رز واحدة ممكن تقلب الميزان
استمر
ياعبقرينو يا جااااااامد
تعددت واختلفت الاراء والجدال والشخص واحد
انا معاك فى شعورك اللى انت اسقطو على شخصيه بطل القصه بس ليا تعليق يمكن انا مش بنفذو كتير بس مقتنع بيه الكتابه سؤاء كانت كتابه مقال او قصه او روايه اى نوع من انواع الكتابه يعنى لازم تكون بتحمل فى داخلها فكره اى كانت هذا الفكره هدامه ام بنائه مش لان بطل القصه مسهمش فعليا فى تغيير واقع البلد كده يبقى هو مقصر بالعكس ممكن تيجى اليوم ويجى جيل يعيد قراءه افكار هذا الكاتب ويحيها وتقوم على اساسها اليه جاده لمواجه الفساد واصلاح البلد على ايد الجيل ده كل الحكايه الوقت ان الراجل ده ممكن ميشفش افكارو وهى بتطبق ادام عينه وده لان الفكره ديما عمرها اكبر بكيتر من عمرصاحبهاولان معظم اصحاب الافكار الناجحه مشفوش افكارهم على حياه عنهم وهى بتطبق فبيجى وقت على صاحب الفكره بيتهئ ليه ان الفكره مفيش جدوى منها علشان كده الكاتب من اهم صفاته انو لازم يبقى صبووووووووووووور . القصه جميله جدا والبطل الحقيقى بتاعها مش حسن عامر البطل الحقيقى هو اسامه ناصف لانو هو بيتكلم عن نفسو بس فى صوره واحد تانى
واحد مظلوم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
من وجهة نظرى أنه أتخذ القرار الصائب
عليه أن يستمر و أن يعيش و يتعايش مع الظروف ..
يستمر و يكتب حتى لو كان مجرد معلق على الأحداث و ليست لديه القدرة على صنعها ..
يستمر و يكفى أنه لديه القدرة على التعليق .. أكيد هذا غير كافى ولا يرضى طموحه .. و لكن يكفى أنه على الاقل يعبر عن رأيه و يجد من يسمعه و يكاتفه و يقف ف صفه ..
يستمر و الأيام كفيلة أن تحمل معها المزيد من التجديد الذى ربما يرضى غروره و يمنحه الحياة الكريمة اللائقة التى يبغاها و يمناها..
يستمر لانه فعلا مؤثر و نشط و فعال
تسلم ايديك .. أسلوب جميل و فكرة رائعة كالعادة
تحياتى ... سلااااااااااام
قصة جميلة، مع بعدها عن المفهوم التقليدي للقصة القصيرة. تلقائية، وسلسة، وعميقة في نفس الوقت. منطق البناء جيد ومشوق ويسمح في نفس الوقت بالتعبير عن موقف دون أن يخلّ بفنية العمل.
كذلك اللغة سليمة. فقط، أتصور أن كلمة (أحقر) في الجملة الأخيرة قد تكون أقوى من أن تحتملها الشخصية. ربما تكون (أضعف) أكثر مناسبة.
د. سيد البحراوي
أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة
إرسال تعليق