الجمعة، 27 مارس 2009

طالما بقى البانتير !

فرد ذراعيه النحيلتين و تثاءب بعمق .. طوال عمره المديد كان يحب التثاؤب .. يشعر دائما بمتعة شديدة و هو يتثاءب بكسل ممتدا على فراشه الواهن .. يرى أن التثاؤب إحدى متع الحياة التى لا يستطيع أحد حرمانه منها !

نهض ببطء شديد .. عبث فى لحيته القطنية بأصابعه العجوزة .. أعد إفطاره البسيط ثم تناوله .. ارتدى ملابسه ثم توجه خارجا من كوخه العتيق ..

مشى نحو نهر الـ " بانتير " .. البانتير هو نهره المفضل .. هناك الكثير من الأنهار الأخرى كالـ " شاكوف " و الـ " ريبون " و الـ " ملتاجو " .. كلهم أنهار ساحرة فعلا .. و لكنه يعشق البانتير .. هناك على ضفافه قضى أكثر أيام حياته حميمية .. هناك تصارع مع أصدقاء شبابه لينالوا إعجاب الفتيات .. هناك رأى حبيبة عمره " لاروجى " لأول مرة .. هناك ابتسم لها و بادلته الابتسام .. هناك ودع لاروجى عندما أخبرته باضطرارها الزواج من " لوستكوفنى " تاجر النبيذ لأن أباها يريده .. هناك ضحك و توتر و صاح و بكى .. و هناك يجلس دائما " ساشينت " ..

ساشينت العجوز الذى يشبهه كثيرا .. نفس العيون المتعبة و النظرات الملولة .. نفس الجسد الممصوص و الشعر الأشيب .. نفس اللحية القطنية و الصوت الهادىء .. ساشينت الذى ينتظره دائما عند البانتير .. يجلسان نفس الجلسة ليتحدثا طوال اليوم محدقين فى مياه البانتير الصافية .. يحكيان ذكرياتهما .. يغنيان لـ " عرلوباك " مطربهما المفضل .. يبتسمان و تدمع أعينهما .. ثم يأتى الليل معلنا لحظة رحيل كل منهما إلى كوخه ..

وصل إلى البانتير .. ها هو ساشينت جالس مادا قدميه فى المياه .. بالتأكيد شعر به و لكنه لم يلتفت .. من ينظر إلى مياه البانتير لا يمكنه الالتفات عنها أبدا ..

_ أتساءل متى سيأتى اليوم الذى آتى فيه إلى البانتير ولا أجدك يا ساشينت !

قالها له مازحا .. لينظر له ساشينت و يبتسم بخبث محبب قائلا :

_ عندما ينضب البانتير و تجف مياهه .. وقتها لن تجد ساشينت أبدا !

ضحك كثيرا ثم جذب ساشينت من لحيته قائلا :

_ أيها العجوز المتصاب .. لا أفهم بالضبط لماذا ضل ملك الموت طريقك كل هذا الوقت ! .. يكفيه فقط أن يقوده مزاجه لبضع لحظات من الرومانسية هنا عند البانتير ليراك .. وقتها لن يضيره أبدا قبض روحك على سبيل التسلية و تزجية الوقت !

_ لن تصدقنى إذا قلت لك أنه كان هنا منذ أيام و رآنى و ابتسم لى ! .. صدقنى هو غير قادر على إيذائى ! .. المشكلة الحقيقية تكمن فيك أنت يا صديقي !

مد يده ليتحسس جبهة ساشينت ثم قال :

_ يبدو أن الشيخوخة بدأت تسيطر عليك فعلا يا ساشينت ! .. لقد أصبحت تهذى يا رجل !

لوح ساشينت بيده فى عدم اكتراث .. ثم أمسك بقبضته بعض التراب و قذفه بحدة فى المياه .. مرت دقيقة ثقيلة من الصمت و ساشينت منهمك فى التقاط التراب و القاءه فى المياه .. حتى استوقفه و أمسك ذراعه بعصبية ..

_ يكفى ذلك يا ساشينت .. يكفى تماما .. لقد ألقيت أتربة بما فيه الكفاية .. لقد تعكر النهر كثيرا .. كفى !

_ اعذرنى يا صديقي .. و لكنك تعرف جيدا أننى مضطر .. ظننتك اعتدت ذلك و لكنك تثبت لى يوما بعد يوم أنك لا زلت طفلا !

_ سامحنى يا ساشينت .. أنت تعرفنى جيدا .. تعرف أننى أتفهم ما يحدث ولا أملك الاعتراض .. و لكننى أتألم يا ساشينت .. أعتقد أن حقى فى التألم هو حق مشروع تماما !

_ حسنا .. تألم كما يحلو لك .. و لكن بهدوء من فضلك !

نظر لساشينت بعتاب ثم نظر إلى مياه البانتير التى تعكرت لتوها .. كم أنت قاسى يا ساشينت !

نظر ساشينت إلى وجهه العابس و ابتسم .. ربت على كتفه فى رفق ثم هزه بمرح و قال له :

_ كم اشتقت لأغنية عرلوباك القديمة " لن أبق وحدى أبدا " .. منذ زمن لم أسمعها .. ما رأيك ؟ .. أندندنها سويا ؟

ابتسم ابتسامة عريضة ثم نظر له بفرحة طفولية قائلا :

_ أحقا تعنى ما تقول ؟! .. ستغنيها معى الآن ؟!

هز ساشينت رأسه مؤكدا .. ثم بدأ صوتاهما يعلوان بكلمات الأغنية ..

" حتى لو اختفت كل الشهب من السماء ..
حتى لو انفجرت كل النجوم لينتشر اللهيب ..
حتى لو قرر اللهيب نفسه أن يتلاشى ..
حتى لو تخلت عنى كل الموجودات ..
و تركتنى حاملا عجزى على كتفى ..
لن أبق وحدى أبدا ! "

اتسعت ابتسامته و شعر بنشوة غامضة تسرى فى كيانه .. ثم واصل الغناء مع ساشينت ..

" كثيرا ما تعاملنى حياتى بقسوة ..
كثيرا ما أشعر أنها تكرهنى حقا ..
و لكننى لن أكرهها ..
لن أشبع لها رغبتها بهذه البساطة ..
سأجبرها أن تحبنى .. نعم أستطيع ذلك ..
سأحبها بعنف .. سأعشقها بغضب ..
فقط كى أنتصر عليها ..
و لا أبقى وحدى أبدا ! "

ارتفع صوت ضحكاته و دمعت عيناه .. كاد يطير من الفرحة عندما رأى ساشينت يلتقط بعض الأزهار عطرة الرائحة من حوله ثم يلقيها فى مياه البانتير و هو يواصل الغناء ..

" فى النهاية .. يكفيني أننى دائما معى ! ..
و حتى لو حدث يوما .. و لم أعد أتحمل الحياة معى ..
سأحاول أن أحبنى أكثر ..
لأجبرنى أنا الآخر على حبى ..
ولا أبق وحدى أبدا ! "

شعر بسعادة غامرة تجتاح جنبات روحه و هو ينظر إلى مياه البانتير التى زينتها الورود .. نظر إلى ساشينت بامتنان كبير .. ثم نهض عندما وجد الشمس موشكة على الاختفاء بشكل كامل .. ودع ساشينت و وعده باللقاء غدا .. سار بخطوات هادئة نحو كوخه و هو لا يزال يردد الأغنية .. ثم بدأت الذكريات تعصف برأسه الأشيب ..

تذكر كيف تركه كل من حوله بعدما أصبح طاعنا فى السن .. تذكر كيف كانوا يعاملونه بقسوة و ازدراء .. تذكر كيف كانوا يسخرون منه و يعتبرونه شيخا مخرفا .. تذكر كيف قلت زياراتهم له يوما بعد يوم حتى تركوه تماما ليذوب كل منهم فى حياته و ينسوه بشكل كامل ..

تذكر كيف بدأ ساشينت يظهر فى حياته فجأة .. ثم يصبح أهم أسباب بقاءها !

هو يعرف جيدا الحقيقة .. يعرف جيدا أن ساشينت لا وجود له سوى فى خياله ! .. ساشينت بالفعل مجرد فكرة داخل رأسه .. و لكنه حقيقي تماما كالبانتير ..

ساشينت حقيقي أكثر من أصدقاءه الذين تركوه وحيدا .. حقيقي أكثر من أبناءه الذين اقتلعوه من حياتهم .. حقيقي أكثر من كل من عرفهم فى حياته من ذوى اللحم و الدم ..

ساشينت كان حقيقيا فى كل كلمة قالها .. كان حقيقيا فى كل تصرف فعله .. كان حقيقيا عندما عكر البانتير بالتراب .. كان حقيقيا عندما زين البانتير بالورود .. كان حقيقيا عندما غنى و ضحك و بكى معه ..

ساشينت .. فكرته التى ستبقى طالما بقى البانتير .. فكرته التى انتصرت على كل من تركه حاملا عجزه على كتفيه .. فكرته التى هزمت اختفاء الشهب و انفجار النجوم و تلاشى اللهيب ..

ساشينت الذى سيبقى دائما عند البانتير .. سيجده هناك طالما أراد ذلك .. فقط لأنه قرر ألا يبقى وحده أبدا !

.............................................................

نشر فى مجلة بص و طل الالكترونية ..http://www.boswtol.com/aldiwan/ndonia_245_084.html

هناك 13 تعليقًا:

غير معرف يقول...

صعب الانسان يعيش لوحده
و الاسهل انه يختلق شخصية خيالي
يتعايش معاها


الاسامى غريبة جداااااااااااااااااااااااااااااااااااا

غير معرف يقول...

ايه الإكتئاب ده ياسيدى انت مالك ومال ساشينت ياعم دا انت مازلت فى عز شبابك ياحبيبى
ولا انت عايز توصف ايه بالضبط أتمنى ألا تكون واصفا لصراعك الشخصى مع الدنيا التى هى أبسط من هذه التعقيداتز
وبعدين ايه الأسماء الصعبة دى يا عم تشيفيتشينكو. مصطفى ناصف

moon light يقول...

(ساشنت) يمثل الفكر....
و(البانتير) يمثل نهرالحياة....
ساشنت والبانتير
(الفكر والحياة)
والصراع مازال مستمر
بين الغبار والورود والبقاء للأصلح
الغبار يتلاشى ويغوص ف النهر
والزهور تطفوا........
وسيبقى الفكر السليم ما دامت الحياة

-( فكرته التى هزمت اختفاء الشهب و انفجار النجوم و تلاشى اللهيب ..)
((ألاحظ هنا دعوة للتفاؤل))

بس فى ملحوظه كده بينى وبينك ياأس أس
(عرلوباك) ده بالذات اخره بياع انابيب مش مغنى خالص..ههههههههه
بجداسمه عجيب عجابه وغريب غرابه....
-انا شايفه ان الاسماء الغريبه دي ف حد ذاتهه تميز بس مش لدرجة عرلوباك..هههههه
بس حقيقي يا اسامة القصه عالمية
وارفع القبعة اعجاباً بالفكرة البعيدة القريبة فى نفس الوقت.....
حقيقي منبهره....
ونحو تقدم دائم وازدهار يا
عبقرينو يا جااااااااااامد

الفراشة الصغيرة يقول...

جميل قوى

ان حد فى سنك

يكتب موضوع بالجمال والروعه دى

دومت مبدعا

غير معرف يقول...

ممتازة جدا كقصة قصيرة .. لكني مازلت أعتنق فكرة أن كل من يرى عيبا في الناس أو في الزمان يجب أن يفهم أنه واحد من الناس و أن أفعاله تؤثر في سلوك الزمان .

محمـود حجـاب

غير معرف يقول...

كلام جميل ينم عن تجربة حزينة زادت المشاعر نضجا وكلام من شخص يبعد عن دنياة ويعيش فى الخيال

Unknown يقول...

انا قلت رأيي فى القصة بس التعليق دة لمحمود حجاب

الله ينور بجد انت قلت جملتين زى الفل فى الصميم ومالهومش حل

د / داليا يقول...

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

قصة ممتازة حقا !!!

روعة .. روعة .. روعة بجد

من أروع و أجمل ما كتبت .. بل هى الأجمل على الأطلاق

بدون مجاملة .. عن جد أنت فى تقدم و نضج رائع.. و دائما الى الأفضل

فكرة أكثر من رائعةو مميزة و سياق أروع

الجميل هو التفاؤل و الامل
{ لن أبقى وحدى أبدا }

حتى لو كانت بداية الأمل مجرد فكرة فى الخيال .. يجب ألا يختفى وهج الأمل أبدا من حياتنا

الأمل هو الأيمان .. الأمل هو السلام
الأمل هو اليقين .. الأمل هو الحياة

دمت مبدعا ..من جميل ل أجمل

أرق تحياتى .. سلام

غير معرف يقول...

الاسامى غيريبااااااااااااااااا
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
D:D:D:D:D:D
بغض النظر عن ده القصه جميله والله بس فيها كتير من !!!!!!!!!!!!!!!!! النهايه جميله والفكره تحفه لليفهمها بس .
طبعا انا ماجد هو فى حد بينتقضك كده غيرى :D

shekoo el lazeeeeeeez يقول...

انت يا اس اس دائما تأتي بكل ما هو غريب ........................................................................................................................................بس والله القصة جميلة ونهايتها اجمل واجمل

غير معرف يقول...

الموضوع فوق الرائع بجد انا استمتعت وانا بقراهشكرا ليك انك بذلت الجهد والفته ابنه خالتك
الاء

غير معرف يقول...

بجد انت عبرت عن اللى بيبقوا عايشين لوحدهم وخصوصا الناس اما تكبر واولادهم يسبوهم عايشين لوحدهم الاء

غير معرف يقول...

قصة ممتازة، رائع يا أسامة هذا السرد الهادئ الرصين المحبوك. وهذا الاستخدام الرمزي للعلاقة بين النهر والصديق والأغنية، والرواي نفسه، تداخل مركب وجميل.

لذلك لا يجوز لكاتب يكتب مثل هذا النص أن يخطئ أكثر من عشرة أخطاء لغوية. مشتاق لقراءة نصوص أخرى.

د. سيد البحراوي
أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة